قال تعالى في محكم كتابه المبين: «يرفع اللَّهُ الذين آمنوا منكم والذين اُوتوا العلم درجاتٍ واللَّهُ بما تَعْمَلُون خَبيرٌ» (المجادلة :11)
الحمدُ للَّهِ ربّ العالمين، وأفضل الصلوات على خِيرته من خَلْقه، وأمينه على وَحْيه، المصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين، وأصحابه المتّقين، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وبعد:
لقد فاجأتنا الساعات الاُولى من فجر اليوم السابع من شهر رمضان المبارك في العام الماضي برحيل صديقٍ عزَّ علينا فقدُه، وصَعُب على أهل العلم غيابه، العلّامة الجليل وعَلَم التحقيق القدير سماحة السيّد عبد العزيز الطباطبائي (طاب ثراه)، الذي كان عَلَماً بارزاً من رجال العلم والمعرفة، وينبوعاً متدفّقاً بالخير والعطاء الذي لا يعرف الحدود.
لقد تفرّع (رضوان الله عليه) عن دوحةٍ علمية مباركة، واُسرةٍ عريقةٍ بالعلم والأدب والتقوى والزهد، فهو سبط آية اللَّه العظمى السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي المتوفّى سنة (1337هـ) صاحب كتاب (العروة الوثقى)، وهو تلميذ ثلّة من مشاهير العلم والأدب والفضيلة أمثال الشيخ آقا بزرك الطهراني المتوفّى (1389هـ)، والسيد عبد الهادي الحسيني الشيرازي المتوفّى (1382هـ)، والسيد أبي القاسم الخوئي المتوفّى (1413هـ)، والميرزا محمد علي الاُردوبادي المتوفّى سنة (1380هـ)، والشيخ الأميني صاحب (الغدير) المتوفّى سنة (1390هـ)، فقد اقتدى بهم أحسن اقتداء، وسلك دربهم، وأدى رسالتهم خير أداء.
لقد أوقف عمره الشريف في طلب العلم وتعليمه، وبذل جلّ وقته ومنتهى جهوده وغاية قواه من أجل أن يحافظ ويَحْرِص على وقت الباحثين والمحقّقين في تراث أهل البيت(ع) من خلال رجوعهم إلى نتائج أسفاره وعصارة أفكاره، فيجدونه يُقرّب الأقصى، ويدني الشارد البعيد، بأرشق عبارة، وأوجز إشارة راصداً لنكات شتّى، بالتفاتةٍ سريعةٍ، ونظرةٍ صائبةٍ، ومنطقٍ مركزٍ، شارحاً ومُعَلّلاً ومفهرساً ومدوّناً، وناشراً لذخائر لم تُنْشَر من تراث أهل بيت النبوة (ع)، كما في ترجمة الإمام الحسن والإمام الحسين من كتاب (الطبقات الكبير) لابن سعد.
وقد أجازنا (ره) لإعادة تحقيق ونشر ترجمة الإمام الحسين(ع) من الكتاب المذكور من قبل مؤسسة الإمام الحسين(ع) التي هي فرع من مؤسسة البعثة، وذلك وفقاً لنسخته التي صوّرها من خزانة السلطان أحمد الثالث خلال سفره إلى تركيا عام (1397هـ)، وذلك من جملة ألطافه التي لا تُحَدّ.
وقد كان نتيجة جهوده المضنية وحركته الجادّة لخدمة تراث أهل البيت(ع) أن ترك آثاراً جليلة خالدة لا نظير لها، رفد بها المكتبة الإسلامية الكبرى تدلّ على سعة إحاطته ودقّة نظره، وهي شاهدٌ شامخٌ على عطائه الغزير الذي سيبقى مصدراً للباحثين في مختلف العلوم الإسلامية، لاسيما التاريخ والعقائد، متتبّعاً بذلك خُطى مشايخه العظام الحجة الشيخ آقا بزرك الطهراني والحجة الشيخ الأميني (ره).
ولا ريب أن إقامة مثل هذه المناسبة هي من دواعي المحافظة على الجهود المباركة لراحلنا وفقيدنا السيد الطباطبائي(ره)، ولأمثاله من علمائنا الأفذاذ، وفق اللَّه القائمين عليها لإحياء إنجازات فقيدنا الراحل العلمية ونشرها وتقديمها لمريديها لتساهم في دفع عجلة تحقيق تراث أهل البيت(ع)، وهو الهدف الأسمى الذي سعى من أجله سيّدنا الطباطبائي(ره)، ولا شكّ أنّه سيُدْخِل السرور والرحمة عليه.
لقد تميَّز صديقنا الطباطبائي (ره) بخُلْقٍ قويمٍ وسجايا وشمائل نادرة، قلما تجدها إلّا في سيرة السلف الصالح(رضوان اللَّه عليهم)، إذ يَغْمُر جليسه ولأوّل وَهْلَةٍ بهالةٍ من الصفاء والهيبة والوقار والتواضع والبساطة المتناهية، فإذا حدّثه وجده سريع البديهة، حادّ الفطنة والذكاء، قويّ الحافظة، وافر العقل والنباهة، صادقاً فيما يقول. هذا، فضلاً عن سَعَة صبره، وأمانته، وعطائه الذي قل نظيره.
وباختصار يمكن القول إنّ حياته (ره) بمجموعها صفحةٌ مشرقةٌ من العطاء، والنُّبل، والعَفَاف، والترفُّع عن الدنايا، وعمّا في أيدي الناس.
ومن مظاهر سخائه أنّه (ره) كان لا يَكْتُم علمه عن أحدٍ، ويَبْذُل كلّ ما لديه من الفوائد العلمية التي لا يملك مفاتيح مغاليقها أحد سواه، رغم أنّه قد بذل الجهود في سبيل تحصيلها، يَبْذُلها بكلّ سَخَاء حتّى لصغار الطلبة وللمبتدئين في فنّ التحقيق.
ومن مظاهر سخائه وحبّه لأهل بيت النبوة(ع) أنّه فتح مكتبته ليل نهار، وحتّى في أوقات مرضه وراحته، للباحثين والمحقّقين في تراث أهل البيت(ع)، وكان(ره) يقول: "خِدْمَتَهُم(ع) أرَدْتُ، وشَفَاعَتَهُم رَجَوتُ، والتَّقَربَ إلى اللَّه تعالى بهم طَلَبتُ".
وقد تجشّم(ره) متاعب الرحلة والأسفار إلى شتّى الديار في سبيل هذا الهدف الأسمى، حتى إنّه نسخ بعض الكتب بيده، ولم يكتف بتصويرها، رغم ظروف الغُربة وأتعاب السفر.
وهكذا نَهَل من علمه الفريد وخبرته الواسعة في نفائس المخطوطات الإسلامية في مكتبات الشرق والغرب، الباحثون والمحققون بمختلف طبقاتهم ومراتبهم، فكان(ره) مرشداً أميناً ورائداً صادقاً.
وقلّما نجد اليوم كتاباً محقّقاً أو مؤلفاً يخلو من بَصَمَات بركته وفَيْض علمه وهدايته وإرشاده، وقد اعترف له أغلب أعلام التحقيق والتصنيف المعاصرين بالفضل والعلم.
وكان ضمن بركاته أن تقدّم إلينا خلال تحقيقنا لكتاب (الأمالي) للشيخ الصدوق بنسخته الخاصة التي قابلها بنسخة ابن السَّكُون المتوفّى نحو سنة (606هـ)، وقلما تجد اليوم أحداً يجود بكتابه الخاصّ الذي قابله بأحسن وأقدم نسخة بدون لقاء ولا مقابل، إلّا من نذر نفسه لخدمة العلم، وترفّع عن حُطام الدنيا، ورَغِب في لقاء الآخرة.
وخلال تحقيقنا لكتاب (أمالي الشيخ الطوسي) رفدنا بمعلوماتٍ وإفاداتٍ نادرةٍ، تتضمّنُ إرشادنا لأقدم نسخةٍ مخطوطةٍ للكتاب، مع جملة اقتراحات قيّمة في كيفية التحقيق والإخراج، هذا فضلاً عن انه تجشّم عناء مطالعة الكتاب ومراجعته وهو في حال المرض.
وثمة ملاحظة جديرة بالذكر في هذا المجال، وهي أنّ الباحث في أغلب آثار سيِّدنا الفقيد(ره) يجد ولأول وَهْلَةٍ أن طابع الإحصاء هو الغالب فيها، الإحصاء الذي يقول عنه(ره): " ولا أظنّ أحداً يَشُكّ في أهمية الإحصاء والفهرسة، هذا الذي أصبح اليوم عِلماً له مُتَخصّصوه والمُتَفَرِّغُون له، وأصبح مادةً دراسيةً في جامعات العالم، وهو مفتاحُ العلومِ، والمِصباحُ الذي يُنِيرُ طريق الباحثين، والدليلُ الذي يأخُذُ بأيديهم، ويُعرِّفهم على خَفَايا مواضيعهم التي يدرسونها وخَبَاياها".
ولم تكن طريقة السيد الطباطبائي(ره) في الإحصاء مجرّد عرض أرقام خاليةٍ عن البحث والاستقصاء والتحقيق، كما هو دَأْب ودَيْدَن أهل الإحصاء، بل إنّه يَذْكُر في ترجمة الكتاب مثلاً عرضاً عن أحوال مؤلّفه ومصادر ترجمته، مصححاً كثيراً من المطالب المُتَعلِّقة بأسماء الكتب، ومؤلفيها، ونسبة الكتب إلى أصحابها وغيرها من المسائل المهمّة للباحث والمحقّق، وقوله في ذلك فَصْلٌ، ورأيه حُجّةٌ، يستطيع الباحث أن يَقْطَع بصحته بكلّ ثقةٍ واطمئنان، لأنّه يستند إلى أُمّهات التراجم والكتب، ففي كتابه (الغدير في التراث الإسلامي) رقم (18) ذكر كتاب (حديث الغدير) للشيخ منصور الآبي الرازي، صاحب كتاب (نثر الدُّرّ) مصححاً اسم المؤلف بعد أن صُحّف في (مناقب ابن شهر آشوب) و(البحار) و(الغدير) ب(اللائي) و (اللاتي) ذاكراً (13) مصدراً من مصادر ترجمته.
ولم يكتف(ره) بهذا وحسب بل يذكر مخطوطات الكتاب، وأرقامها، وأماكن وجودها، وهل وصلت إليها يد التحقيق أم لا، وما إلى ذلك من الأُمور المهمّة في فنّ التحقيق، ويمكن القول إن التراجم التي كتبها السيّد الطباطبائي تَصْلُح كمقدماتٍ رائعةٍ للكتب والأشخاص الذين ترجم لهم، ويستطيع الباحث وبمجرد نظرة سريعة في كتاب (الغدير في التراث الإسلامي) أو (أهل البيت في المكتبة العربية) وسواهما من آثاره القيّمة(ره) أن يجد مصداقاً ناطقاً بما نقول.
على أنّه (ره) قد لا يكتفي بما ذكرناه، بل يشير إلى صُورٍ من التحريف والتصحيف الذي أطال بعض الكتب من أيدي مُحقّقيها أو نُسّاخها، وقد أحصى بعضاً من ذلك خلال عرضه لطبعات (نهج البلاغة).
وخلال تحقيقنا لكتاب (إتحاف السائل بما لفاطمة من المناقب والفضائل) تردّدنا في نسبة الكتاب بين اثنين؛ هما: محمد عبدالرؤوف المناوي المتوفّى سنة (1031هـ)، كما هو في تحقيق الأستاذ عبد اللطيف عاشور من طبعة القاهرة ونسخة دار الكتب المصرية، ومحمد بن محمد بن عبداللَّه القلقشندي الشافعي المتوفّى سنة (1035هـ) وفقاً لنسخة جامع الزيتونة في تونس وبعض المصادر، وبمجرد نظرةٍ في كتاب (أهل البيت في المكتبة العربية) رقم (11) توفّر لدينا القطع على أنّ مؤلّف هذا الكتاب هو الثاني لا الأول كما في تحقيق الأستاذ عاشور، وذلك وفقاً لأقدم وأهم المصادر التي ترجمت للمؤلّف والكتاب.
أخيراً أدعو المولى القدير أن يُدخِل السرور على روحه الطاهرة، ويَتَغَمّده برحمته الواسعة، وأن يوفّق الجميع لخدمة أهل البيت الأطهار، وعلماء مذهبهم الأبرار.
وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين
وصل اللَّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
أ.م.د علي موسى الكعبي
كتبتها في الذكرى السنوية الأولى لرحيل السيد عبد العزيز الطباطبائي، ونشرت باسم قسم الدراسات الإسلامية مع مجموعة مقالات في كتاب مستقل عنوانه (الطباطبائي في ذكراه السنوية الأولى ص235) نشر مؤسسة آل البيت في قم 1417هـ.